صقر عليشي

  في عام 1961م ، أتيح لي أنْ أطلع على كتابات جمهرة من المفكرينَ والكـُتـَّاب السوريينَ التي طالعتنا منشورة في أعداد مجلة ( المعرفة ) السورية التي صادف أنْ أسستها وزارة الثقافة السورية في تلك الآونة ، وصدَرَتْ عنها بإشراف الأستاذ الكبير فؤاد الشايب ، وقبلها كان إلمامي بالحالة الأدبية وإحاطتي بنـُبَذٍ مسعفةٍ عن الوضع الثقافي في هذا البلد الشقيق والمحادد لبلدنا العراق ، وتدنِي أحدهما من الآخر صلاتٌ شتى وأواصر عريقة لا حاجة للتنويه بها والاستطراد إليها ، قلتُ كانتْ معرفتي بالتحولات والتطورات الأدبية في بلاد الشام نزرة ومحدودة بفعل ماجريات الأوضاع السياسية في منطقنا في ذلك الحين ، فوقفتُ على أدبيات وكتابات متميِّزة بالرصانة والعمق ومكتنزة بكلِّ رأي سام ٍ وفكر منطلق وتبن ٍ لخطة ومنهج يهدف إلى إصلاح أوضاعنا وتشذيبها ممَّا يشوبها من سوءٍ وتردٍ ، نتيجة لمخلفات العصور الماضية وما تخللها من استبداد وتعسُّفٍ واحتلال أجنبي ، وتشكـِّل سمات الصحَّة اللغوية والصـدق التعبيري والوضـوح أخيرا ً قاسما ً
مشـتركا ً في سائر ما أسلفوه من شواهد ونصوص ، وأبينها مأثورات : فؤاد الشايب ، وعبد الكريم زهور ، وحافظ الجمالي ، وإبراهيم الكيلاني ، وكامل عيَّاد ، وزكي المحاسني ، وغيرهم .


       قلتُ إنَّ الوضوح ويعني ما يتوقل عليه الكاتب ــ أيُّ كاتب ــ كطريقة لإبلاغ الناس بما يجيش في وجدانه من خوالج ، ويُراود ذهنه من نوازع ، وتنزع له نفسه من أشواق ورغبات ، وبالتالي يتوق ويتمنى تجسيده وتحقيقه على صعيد الواقع من مقاصدَ ومَرَام ٍ ، فالوضوح سمة وشرط لا غنى عنهما ولا مندوحة للكاتب الذي يبغي أنْ يقبل الناس على قراءة نتاجه ، فلا يجدونَ عسرا ً ومشقة في فهمه بل سرعان ما يحيطونَ بما يريد أنْ يعبِّر عنه من غرض ، ويصوغه ببيان سلس وقريب من الفهم ومجانبٍ للإغراب والغموض ، من مضموناتٍ ومعان ٍ .


       خطر في بالي كلُّ هذا الاستذكار لانفتاحي الأوَّلي المحدود على الثقافة العربية في سوريا ، وقد شرعْتُ بقراءة تقديم الدكتور وفيق سليطين لمجموعةٍ شعرية بعنوان : ( الغزال ) أعدَّها وطبعها الشاعر السوري صقر عليشي ، راميا ً منها إلى التعريف بتجربته ورفد قرَّائها بما يعاونهم على جلاء معانيه وتوضيح الدواعي التي تستولي عليه ، وتسوقه سوقا ً لتجريب طاقته ومكنته من الصياغة الشعرية ، لا سِيَّما أنـَّه لا يجد أمامه من الوقت متسعا ً في حياته اليومية دائما ً ، ليتفرَّغ لنسج الشعر مستوحيا ً إيَّاه من تجاربه وتعامله الدائم مع أنداده ومشاكليه ونظرائه من الكـُتـَّاب والشعراء ، فالرجل يعي أنَّ ظروف الحياة تستدعي من الإنسان القويِّ الجلد أنْ يكون له عمل يرتزق منه ويكفل به حاجاته وأسبابه ، وكذا افتتح مؤسَّسة ( دار الينابيع ) للطباعة والنشر والتوزيع ، وصار على صلة وارتباطٍ وثيقين ِ بمَن يتعاملونَ مع الحرف ، ويبلونَ ما ينجم عن مراسه من نصبٍ وعناء ، جرَّاء انهماك غير واحد من أولاء الذين تعارف الناس واصطلحوا على تسميتهم أو نعتهم بالمبدعينَ ، في استخدام الألفاظ والكلمات المتوافرة والمتأتية من رصف الحروف وترتيبها في العبارة عن أشواقهم وتطلعاتهم وآرابهم ، والملأ من حولهم في غنية عن الالتفات لهم والنظر بحالهم ، إنـَّما هم لاهونَ منشغلونَ في جني أطماعهم ورغابهم ، منصرفونَ للانغماس في ملذاتهم وأوطارهم ، إنْ لم يرموهم بالسخف ويزروا بهم ويصموهم بكلِّ ما يشين من ضروب القدح والتشنيع ، غير أنـَّهم يحرقونَ الأرم وينفسونَ عليهم هذا الاستمتاع الفني الذي ينغمرونَ فيه ويستغرقهم كلما اطلعوا على أثر ٍ خالدٍ من آثار المؤلفينَ السابقينَ قبلهم ، فتزداد معرفتهم ويتوسَّع إدراكهم ، ولعلَّ هذا ما يتعلل به الأدباء الذينَ يشقيهم الأدب ويضنيهم ، ويتعزَّوْنَ عمَّا يحيق بهم من بؤس وحرمان ومرارة .


       ولكون الشاعر صقر عليشي درج في سعةٍ ويسر ومكفيا ً إلى حدٍ ، وإنْ لمْ يفِ بما يربي على بعيد المنال من الوفاء بالمطالب والحاجات ، أقدم على طبع مجموعاته الخمس التي سبقتْ هذه الأخيرة ، والتي أصدرها في سنوات سابقة ، فظهرَتْ في واجهات المكتبات بطبعة ثانية وثالثه ، كما جارى غيره من المؤلفينَ فيما يصنعونَ حِيَال نتاجاتهم من الخشية عليها من التشتيت والتبديد والبعثرة ، فأخرج المجموعة الشعرية الكاملة ، وليس هذا بميسور ومستطاع غيره من الشعراء أنْ يُقدِم على هذا العمل لولا ما هو فيه من رفهٍ ورغادة وامتلاك لدار الينابيع .


       قلتُ إنَّ الدكتور وفيق سليطين كتب مقدمَّة لهذه المجموعة الشعرية الأخيرة التي أسماها صقر عليشي ( الغزال ) ، وهو عين العنوان الذي أطلقه على آخر قصيدة فيها ، أجراها على شعر العمود دون بقيَّة القصائد التي هي من شعر التفعيلة ، كما أنَّ قصيدة الغزال تتماثل وسائر القصائد في إخراجها الطباعي الموهم بأنـَّها من الشعر الجديد ، كما يصنع نزار قباني في بعض قصائد دواوينه .


       ولا بُدَّ من أنَّ القارئ اكتنه من وراء استذكاري للوضع الثقافي السوري قبل عقود ما ساورني من بعض النفور من هذا الانغلاق الغالب على تقديم الدكتور المحترم ، ومـن أوَّل سطر إذ يقول : (( إذا كان الفنُّ هو غائية بلا غاية كما يقول كانت )) ، وهنا أستعيد قولة الكاتب اللبناني الشهير سعيد تقي الدين واستهجانه لمنوال بعض أدبائنا وحسبانهم أنَّ رأيهم لا تثبت وجاهته ، والحكم الذي يقطعون به لا يكتسب الرجحان والسداد والصحَّة ما لم ينسبوه ويزعموا أنَّ مفكرا ً أو فيلسوفا ً من الغرب قد استدلَّ به وخلص إليه .


       ويمضي الدكتور سليطين في شرحه وتحليله لشعر صفيَّهِ عليشي وتعريفه بتجربته وإماطته السرَّ في إيثاره هذا العنوان المستحدث والغريب لها ( الغزال ) وما يرمز له ، فيقذف بنا وسط غابةٍ لفاء من التراكيب اللفظية والتجانسات غير الموحية والدالة على المعاني المحدَّدة والمقاصد السهلة المتوضِّحة ، من قبيل أنـَّه حين عنَّ له أنْ يشيد ببراعته في توزيع مفردات أبياته من قصيدة الغزال وإجرائها على وفق ترتيبها المطلوب ، بحيث تتقسَّم في مصراعين ِ سبق أنْ تلمَّسهما القارئ وحكى عنهما (( النظام العروضي الموروث )) ، يملي مـن التعابير الملفعة بالتعمية والغموض ، وتحار بدورك في (( استبانة هذه الكتلة اللفظية في هندسة القول )) ، وأشباهها الكثير من الصيغ المتكوِّنة بنتيجة رصف الكلمات والمفردات اللغوية ، دون تحسُّب لما عسى أنْ تدلَّ عليه من معان ٍ ، وتوحي به من مضامين وتجمله من محصلات نقدية وآراء في الشعر والشعراء .


       ولعله وفـِّق في شرح أبعاد تجربة الشاعر في قصيدة ( الغزال ) ، من ناحية وصولها إلى (( مستوى الكلام الصوفي وإشاراته الغامضة التي تبعث على الوجد )) ، ومبارحتها (( مدى الألفة إلى الافتتان بتجلي الجمال المطلق في الصور المقيَّدة ، وتحمل على شغف الإنصات إلى كلام الوجود أو لغة الكينونة التي يسر بها الغزال ، أو يشفُّ عن عمقها السري المحتجب )) ، هنا وفي خواتيم النص ترامى كاتب المقدِّمة في هاوية التعقيد والغرابة ، وجارى غيره من الباحثينَ في فهمهم الخاطئ لمدى صلة الفلسفة بالتصوف ، أو ابتغاء كلِّ منهما وجهة واشتراط أنْ يُجسَّد ما يعنيانه ويحيطان به من أغراض ومقاصد وفحاوى بلون من العبارة الملتبسة والمقاربة للتلغيز .


       وشعر صقر عليشي لا يستدعي لتفسير معانيه وتبسيط غاياته واكتناه بواعثه وملهماته كلَّ هذه اللقانة الفلسفية التي نحمل أنفسنا عليها وتقتضينا من الجهد والتنطع ما تقتضي من الإرهاق ونحوه ، فهو جار على الوضوح والبساطة والسهولة المحبَّبة مع تحاشيه الإخلال بقواعد التعبير وأصوله ، وأحرى أنْ يصنـَّف فيوسم بأنـَّه من شعر الحياة اليومية الذي أطنب بعض أدبائنا قبل سنين وتحرَّوه موصوفا ً به نتاج شاعر فرنسي يُدعى ( جاك بريفير ) ، يقول صقر عليشي :


حين وصلتِ

كنتُ واقفا ً منتظرا ً

على الرصيف

نزلتِ من سيارة الأجرة ...

سلمتِ ..

ومن بعدُ مشينا

تحت مطر ٍخفيف

ولم تكن معي مظلة

أذكر هذا جيدا ً

................


       ويتناهى الشاعر في مغامرته بالبوح وحبِّه للصراحة ، فيبذ ُّ نزار قباني صاحب ديوان ( طفولة نهد ) ومعلم الشعراء السوريينَ جميعا في مكاشفته للجمهور وصدم أذهانهم بما لم يألفوه ويسمعوا به من غريب القول ، فيتوزَّعوا بين معترضينَ ومستهجنينَ ، وبين مَن يطرونَ حسن ذوقه ورهافة حسِّه ونفاذه إلى مواضع الفتون والحسن في الجسد الإنساني ، كما يجيء بوحه وإفضاؤه في مطولته ( عواقب الحرير ) ، يقول :


وقالتْ :

أأعجبك النهدُ قل لي ؟

أراقتك تلك الحرارة فيه ؟

فقلتُ :

امنحيني القليل من الوقت ...

إذ بعدُ لم أتعرَّف عليه تماما ً

................
مهدي شاكر العبيدي

تعليقات