كوليت خوري

ولدت في دمشق.
تلقت تعليمها الأولي في(مدرسة راهبات البيزانسسون) وأتمت دراستها الثانوية في المعهد الفرنسي العربي في دمشق. بعدئذٍ درست الحقوق في الجامعة اليسوعية في بيروت ثم تابعت تحصيلها العالي في جامعة القديس يوسف ببيروت، ثم في جامعة دمشق، ونالت الاجازة في اللغة الفرنسية وآدابها.
عضو جمعية القصة والرواية.

تمنّت لو تقوله له: "تعال أنت وأسرتك وعيشوا هنا. بيتي واسع رحب دافئ."‏
لكنها ظلت صامتة. كانت تعلم أنه لن يتقبل الفكرة بل سيعتبر دعوتها ودّاً مصطنعاً وخبثاً.‏
حين اعتذر لها عن تأخره بقوله أنه منهمكاً بتركيب المدفأة في البيت لأن البرد غداً قارساً والأطفال يقاسون، تحاشت أن تشهق استغراباً.‏
لم تكن تدري أن هناك أسراً تعيش في المدينة حتى هذه اللحظة دون مدفأة!‏
منذ شهرين والدفء يرفرف في أرجاء بيتها الواسع.‏
وأحست بوخزة في أعماقها.‏
لا شك في أنّ هناك طبقة تجهل آلام الشعب وهي منها!‏
لم تقل شيئاً بل اندمجت معه في الحديث:‏
-وهل اشتغلت المدفأة؟‏
قال:‏
-طبعاً.. وقد تركت غرفة الجلوس دافئة.. كالنار.. والأطفال يلعبون سعداء.‏
الفرح في لهجته جعلها تحسّ في أعماقها بشيء يشبه تأنيب الضمير.‏
مدفأة صغيرة تسعد أسرة بكاملها. وهي التي لم يخطر في بالها يوماً أن تشكر الحظ بل أن تدرك إنه حظ هذا الذي جعلها تجهل حتى الآن أن هناك أناساً يموتون كل يوم من البرد.‏

وتلفتت حولها.‏
وخيل إليها وكأنها قد ارتكبت جريمة بسكناها في هذا البيت الدافئ. هذا البيت الذي عرفته دافئاً منذ فتحت عينيها للنور.‏

وأرادت أن تغيّر مجرى أفكارها. فتململت في جلستها وسألته في لهجة عادية:‏
-إذن.... أنت لم تنم بعد الظهر؟‏
هز رأسه في حسرة:‏
-أنىّ لي أن أنام؟ بل متى كنت أستطيع أن أنام في البيت خلال النهار؟ الأطفال يزعقون وزوجتي عصبية المزاج تزعق هي الأخرى... والضجيج يملأ البيت..‏
استمرت في الحديث فقط لتهرب من شعورها بالذنب. فقالت:‏
-ادخل غرفة النوم واقفل عليك الباب واسترح ساعة.‏

رمقها معاتباً:‏
-ما بكِ؟ يجب أن تزورينا لتري بيتنا! غرفة النوم متصلة بغرفة الجلوس. وهي لا تحوي سوى سريرين حديدّين ضيقين. أنام أنا وزوجتي على أحدهما والأطفال على الآخر.. فكيف تريدينني أن أدخل الغرفة وأقفل عليهم الباب؟‏
لم تعد تدري ما تقول هي تجهل هذا النوع من العيش.‏

ومع أنها واثقة من أن الذنب ليس ذنبها إلا أن مضايقتها ازدادت. وظلّ هذا الشعور الذي يشبه تأنيب الضمير ينخز أعماقها.‏

لا! ليس ذنبها أنها نشأت في طبقة ميسورة وأنها ورثت عن أهلها مبلغاً من المال وهذا البيت الدافئ.‏
مات أهلها. ورحل من رحل. وظلتّ هي وحيدة في هذه المدينة لأنها تكره الاغتراب ولأنها منذ طفولتها كانت تنادي بالثورة.‏

ومرت سنوات‏
وتعرفت إليه.‏
شاب ريفي ملتزم. من أولئك النادرين الذين لم يعتبروا الثورة يوماً طريقاً لمركز أو وسيلة جميل الطلعة. صافي الملامح. يرى العالم من خلال منظار محدود ولكن نقيّ. يريد أن يبني الوطن من جديد وعلى الشكل الأحسن لكنه لم يدرس طرق البناء، مستعد بجدّ أن يموت من أجل المستقبل الأفضل.‏
وارتاحت لهذا الشاب المؤمن. وأحست بأنها قادرة على أن تقدم إليه صداقة ظلت مكبوتة في نفسها سنوات.‏
وأحبها هو.‏

كانت حلوة طيبة مرهفة. والأهم كانت ربيبة طبقة وابنة مدينة. وكانت هاتان الصفتان تثيران كل وافد جديد ينقم على المدينة. يريد إصلاح المدينة. يسكن المدينة. ويرفض أن يتعرف بأنه لا شعورياً يبحث في المدينة له عن جذور.‏
ونمت بين هذين الإنسانيين المختلفين صداقة متينة.‏
وصار يزورها كل مساء كل مساء، فيجدها كل مساء كل مساء في انتظاره.‏
لم يعترف لها بحبه. فقد علموه أن العواطف تقتل الرجولة وبالتالي تسيء إلى القضيّة... وصدّق.‏
ولم تخبره بارتياحها له. فقد اكتشفت خلال السنوات الفائتة كم أن خبراً كهذا يدع للتبجح وللمتاجرة. وخافت.‏
كل ما هنالك.. كان يعلم أنها تعيش في مدينتها غريبة. وكانت تعلم.... أنه يعلم.‏

قصة المدفأة أزعجتها. بل أزعجها شعورها بالذنب فنهضت من مكانها قائلة:‏
-سأهيئ له فنجاناً من الشاي.‏
وشعرت وهي تمشي في القاعات الكبيرة متجهة صوب المطبخ بحاجة لأن تقول له:‏
"بيتي كبير دافئ. ليتكم –أنت وزوجك والأطفال –تقيمون معي. أنا وحدي ووحيدة.‏
وأنا أكره الوحدة. أخاف الوحدة".‏

لكنها ظلت صامتة.‏
هل يستطيع هذا الصديق أن يقدر ما هي الوحدة؟‏
هل يستطيع أن يصدّق أن هناك صقيعاً نفسياً ذابحاً يجعل الإنسان يتخلى عن كل شيء ويبيع الدنيا بهمسة ودّ؟‏
لا! عليه أولاً أن يحصل على كل شيء.... ثم يصاب بأمراض الوحدة والملل والفراغ... لذا راحت وهي تقدم له الشاي تحدثه عن أمور عادية. عن بلاده غريبة بلاد باردة بيضاء زارتها في طفولتها.....‏
ومرّ الوقت.‏

ونظر إلى ساعته وابتسم قائلاً:‏
-الوقت معك يمضي بسرعة.‏
ونهض. فرافقته حتى الباب.‏
ودّعها. وخرج.‏

ظلت واقفة تنظر إليه حتى غاب عن عينيها.‏
دارت في بطء على نفسها ودخلت على مهل.‏
وبدا لها بيتها الواسع الدافئ موحشاً مخيفاً.‏
وراحت تدور في الغرف الرحبة، تبحث عبثاً في كل زاوية عن همسة ودّ.‏
وحين وصلت إلى غرفة نومها الأنيقة المبطّنة بالستائر المخملية والسجاد. وقفت على العتبة.‏

وسرت قشعريرة باردة في جسدها.‏
منظر سريرها العريض المغطى بالرياض والفرو أخافها. لقد بدا واسعاً مُوحشاً كالصحراء.‏
وبسرعة دارت لا شعورياً وعادت إلى حيث كانا جالسين. ووقفت محنية الظهر تحاول استحضار طيف الصديق الذي ذهب منذ لحظات.‏
وخيل إليها أنها تراه.‏

هاهو يصل إلى بيته الصغير البارد. إنه يدخل على رؤوس أصابعه. ويتمهل في غرفة الجلوس أمام المدفأة المطفأة. إنه يتحسسها بيديه وهاهو يبتسم وقد يشعر بآثار نيران رقص حولها الأطفال.‏

إنه يتأكد من أنها مطفأة، ثم يتجه إلى غرفة النوم الخالية من الستائر ومن السجاد ومن مدفأة.‏
الجميع نيام.‏

يقترب من الأطفال. يغلفهم بنظرات حنانه. ثم يحمل الغطاء الوحيد الذي تدحرج إلى الأرض ويضعه عليهم في سكون.‏
وأخيراً هاهو يخلع ثيابه على عجل وينزلق مسرعاً، وهو يرتجف من البرد، تحت اللحاف الرقيق إلى جانب زوجه في السرير الحديدي الضيق... الضيق...‏
وأحست بنفسها فجأة وحيدة.. وحيدة كالحيوان المريض فحضنت ذراعيها بيديها، ورفعت كتفيها كما لتُغرق بينها رأسها المتعب. وتكوّمت خائفة مرتجفة في زاوية الديوان المريح...‏
وبصورة غريزية فاضت عيناها بالدمع..‏
اضيفت في 11/01/2009 / خاص القصة السورية




قطرة الدم

الفكرة مستوحاة من الأساطير الهندية

لان يديك ألوف الأيادي
لان جراحك شعب ينادي
أنا الثأر والكبرياء
لأنك وحدك جيش وفادي
لأني احبك حب بلادي
ركعت احيي الفداء.

في القرية الكبيرة التي تشبه مدينتي كانت تعيش الحسناء .
فتاة بايعها الناس كلهم بالحسن على الرغم من انهم لم يجمعوا قبل على مبايعة أحد.
فقد كانت الجمال في بقعة يحنون فيها إلى الجمال المفقود.
كانت الصفاء في البلاد التي يذكرون فيها صفاء ولّى.
كانت الذكاء بين أناس يقدرون الذكاء لأنهم أدمنوه .
وتوجت أميرة في القرية التي لا تعرف الإمارة . في القرية الكبيرة التي تشبه مدينتي..
تقدم لخطبتها كل من ادعى العظمة وكل من رفعه الناس خطأ إلى العظمة فصدق الخطأ.
لكن أحدا من هؤلاء لم ينل إعجابها ، وظلت عزباء تعيش في الوحدة التي يفرضها الحسن عادة على المرهفين.
واحتج الناس .
إذ لا يجوز أن تغدو الحسناء عانسا. خيرة شبان البلد تقدموا لها إلا أن تختار.
ولما كانت الفتاة ذكية ، تعرف ان على حامل التاج واجبات تجاه الذين توجوه..
ولمل كانت لم تحب أحدا من الذين تقدموا إليها ، فقد قررت أن تختار من يحمل إليها اثمن جوهرة في العالم.
وزغردت القرية للقرار . وانطلق الشبان القادرون في أرجاء الأرض ، يبحثون عن جوهرة قد تحمل إليهم السعادة .
ومرت الأيام والشهور . وعاد الباحثون من رحلاتهم بعد سنوات . وتناقلت الشائعات أن الاختيار سيقع على واحد من ثلاثة عادوا يحملون اثمن جواهر العالم.
وسبحت القرية في الأخبار والتكهنات.
في حي فقير من القرية الكبيرة التي تشبه مدينتي كان يعيش شاعر يحب الحسناء .
كان يكتب لها قصائد الغزل الرائعة ، ولطالما حمل إليها وردة أو رمى عند قدميها نجمة أو ألقى على جيدها عقدا من دمعات.
لم يكن يطمع بالزواج منها، فقد كان لا يملك من الدنيا سوى حس مرهف وقلب كبير وأحزان . كان لا يملك إلا الأمور التي تدهورت قيمتها في القرية الكبيرة التي تشبه مدينتي.
وحين سمع بعودة العرسان، وحين رأى الناس يقدمون للحسناء هدايا العرس المنتظر، ترك القرية وراح يبحث عن رمز لحبه يرميه بين يدي العروس.
ووجد نفسه ذات يوم في سهل كبير احمر، وقدر من الدم الذي صبغ الأرض ومن الجثث المتناثرة أن معركة جرت في تلك البقعة.
وفجأة سمع أنينا فاقترب من مصدر الصوت ليرى شابا غارقا في دمائه وما يزال قابضا على سيفه.
وظن الشاب الشاعر من الأعداء فهم بالنهوض متحديا نزيف جراحه البالغة، لكن الشاعر سارع يخبره بأنه غريب يجول في العالم ويبحث في الأجواء عن أنشودة.
واطمأن الشاب فراح يشرح بصوت متقطع:
-هذه الأرض ارضي .. اغتصبها الأعداء .. قتلت كل هؤلاء .. سنسترد الأرض..
وحاول الشاعر إسعاف الجريح لكن الأخير حشرج :
-دع دمي يتدفق .. دعه يروي هذه الأرض فهي عطشى.. وحين سأله الشاعر من يكون، ابتسم الشاب في تعب وغمغم وهو يلفظ آخر أنفاسه: اسمي .. فدائيّ.
وأغمى عليه فبدا وكأنه قد مات.

وأحسّ الشاعر فجأة بالوطن يتجسد في شخصه، فمدّ ذراعيه ليحضن إلى صدره أغلى أبنائه.
ونسي في تلك اللحظة كل شيء . نسي الحسناء والعالم والدنيا ولم يتذكر إلا انه يضم بين ذراعيه أسمى معاني التضحية، فأحنى رأسه متأثرا خاشعا.
لكن الفدائي انتفض، وفتح عينيه، ونطق:
-ليعش وطني أبدا ولنا النصر...
ومع هذه العبارة لفظ آخر قطرة من دمه.
فمد الشاعر يده بسرعة ليلتقط قطرة الدم، ثم ضم الشهيد إلى صدره مودعا باكيا.
في القرية الكبيرة التي تشبه مدينتي، كانت الحسناء جالسة في الساحة، وكان العرسان يختالون متحلين بغرورهم، متبججين بهداياهم ، جاعلين من زواجهم مشكلة القرية الوحيدة.
وكان الأهالي يصفقون للأبطال الذين لم ينتصروا.
وأطلّ الشاعر على الجميع حزينا شاردا، ولم تلتفت إليه القرية الكبيرة التي تشبه مدينتي.
لكن الحسناء سألته عما به، فاقترب منها وراح يروي عليها ما جرى.
وحين أنهى قصته فتح يده ليقدم لها قطرة الدم، فمدت يدها متلهفة وهتفت والدمع في عينيها:
- هو ذا الذي اختار.. لأنه قد حمل إلي اثمن جوهرة في العالم.
مؤلفاتها:
1-عشرون عاماً- شعر بالفرنسية- دمشق 1957.
2-أيام معه- رواية بيروت 1959.
3-رعشة- شعر بالفرنسية- دمشق 1960.
4-ليلة واحدة- رواية- بيروت 1960.
5-أنا والمدى- قصص- بيروت 1964.
6-كيان- قصص- بيروت 1966.
7-دمشق بيتي الكبير- قصة- دمشق1969.
8-المرحلة المرة- قصص- دمشق 1960.
9-الكلمة الأنثى- قصص- دمشق 1971.
10-قصتان- قصص- دمشق1975.
11-ومر صيف- رواية- دمشق 1975.
12-أغلى جوهرة في العالم- مسرحية- دمشق 1975.
13-دعوة إلى القنيطرة- قصة- دمشق 1976.
14-أيام مع الأيام- رواية دمشق 1979.
15-أوراق فارس الخوري- اعداد- دمشق 1993

تعليقات