التشكيلي السوري برهان كركوتلي

 **** 1932 - ولد في دمشق ، سورية تخرج من قسم التصوير بجامعة القاهرة عام 1958 ليستكمل دراسته في برلين التي تخرج منها عام 1963. تجول كركوتلي في حياته وأعماله بين سوريا، المغرب، المكسيك وغيرها، ومسّت أعماله قضايا تحررية للشعوب كالفلسطيني والمكسيكي، بالإضافة إلى قضايا مثل المرأة والفقر وغيرها. 2000 - توفي في المانيا


أحلم أن أشتري حماراً في سورية وأضع لوحاتي على ظهره، وأدور بها من قرية لقرية وأعرضها على الفلاحين الفقراء". بهذه المقولة لبرهان كركوتلي يطيب لي أن أبدأ الحديث عن فنان سوري حمل صفات عديدة: التشكيلي، الحفار، الشعبي، الحكواتي... نزل برهان كركوتلي من حي سوق ساروجة الدمشقي في 15/5/1932 ليبدأ حياته دارساً للفلسفة، ومن ثم يعانق كل الوجوه التي يقابلها ويحبها، ويرسم ويعبّر عما يدور في دواخل الذين التقاهم، ويبدو أن الوجوه التي رآها في دمشق لم تكفه، فانتقل إلى القاهرة ومدريد وبيروت والمغرب وألمانيا والمكسيك وفنزويلا يبحث عن الوجوه التي تعبّر عنه ويعبّر عنها.. وحين وجد أن اللوحة تضيق عن التعبير خرج من بطون كتب التراث ليشكل حكواتياً عربياً بلسان ألماني غير عابئ بنقد أو انتقاص، إلى أن توفي في مدينة بون الألمانية في 28/12/2003 راضياً عن حياة عاشها كما أراد، رضي بحرماناتها، وسعد بنجاحاتها، تاركاً إرثاً فنياً يبقى خالداً على الأيام. من حسن حظ المبدعين أن يكون لهم أصدقاء مبدعون يكتبون عنهم بحب وود، فإن توفر مثل هؤلاء الأصدقاء في حياة المبدعين ذُكروا بعد الرحيل، واستعصوا على النسيان، حتى وإن أهملوا أنفسهم، وهذا ما كان من شأن الفنان السوري العالمي، المبدع برهان كركوتلي الذي قيض له الله صديقاً محباً وفناناً مبدعاً كبيراً هو الأستاذ غازي الخالدي الذي تألم لرحيله، ووقف عند مسيرته محباً ومقيماً، فكتب سيرة صديقه في كتاب ضخم، ووثّق أعماله الفنية التي لا يكاد يعرفها أحد من الأجيال السورية الشابة، وحمل الكتاب عنوان (برهان كركوتلي فنان الغربة والحرمان) وطبع الكتاب في مطابع وزارة الثقافة السورية عرفاناً بالفنان وفنه، وتخليداً لدوره في خدمة الفن وتعميم الفن العربي والسوري على المستويين العربي والعالمي، خاصة أن برهان كركوتلي كان من الفنانين القلائل الذين يقدمون لوحاتهم بأسعار رخيصة لإيمانه بأن الفن يجب أن يكون عاماً مثل الماء والهواء. قضايا ورحلة يشير الدكتور غازي حسين في تقديمه للكتاب، والدكتور غازي الخالدي في صفحات الكتاب التي وصلت إلى خمسمئة صفحة من القطع الكبير إلى أن كركوتلي كان فناناً سوريا دمشقياً، تزوج من عربية، ودرس في القاهرة، ومارس الفن في المغرب، والتزم القضية الفلسطينية التزاماً تاماً حتى وقع اتفاق أوسلو، وعاش في ألمانيا، وأعجب بتجارب الأحرار والثوار في مختلف أرجاء العالم، وأدمن الأدب الشعبي، وأحب الفقراء حباً لا مثيل له، وهو واحد منهم، وكم من مرة لم يجد لديه ثمن أوراق الرسم والأقلام الرخيصة، وإلى ذلك يشير الدكتور الخالدي عندما يذكر أن كركوتلي لم يكن يملك ثمن أوراق مشروع تخرجه عن مشفى الأمراض العصبية في العباسية، فتبرعت له الجامعة بثمن الأدوات لمشروع كان مهماً ونال عليه مرتبة الشرف الأولى. إن كركوتلي حمل هموماً لم يحملها سواه، فهو لا يقل عن أي ثائر أو فنان اشتهر فهو صديق غيفارا وناجي العلي وغيرهما، وكرّس حياته لقضايا خاسرة من النواحي المادية، لكنها تمنح صاحبها الخلود الذي لا يطوله أي شيء. ومن أجل هذه القضايا تخلى برهان كركوتلي عن التقنيات والحذلقات ليقدم لوحات مباشرة أقرب ما تكون إلى الزوايا الصحفية الناقدة التي تتابع الاحداث السياسية والاجتماعية والثقافية. ومن أجل هذه القضايا عمل كركوتلي في الملصقات الإعلانية الخاصة بالقضايا التي يؤمن بها، وتخلى عن جمال الألوان ليبقى في إطار الأبيض والأسود الذي يعطيه مساحة أكبر للتعبير عن ضدين في الحياة، الخير والشر، القوة والضعف. حياة تعبّر عنه عندما كنت أقرأ الكتاب أول مرة لم أكن أصدق أن إنساناً يمكن أن يعيش مثل هذه الحياة، لكن عندما أبحرت في حياة هذا الفنان أدركت أنه لو لم يعش بهذه الطريقة لم يكن يستحق لقب الفنان البوهيمي الحر الملتزم بقضايا اختارها بنفسه دون أن تفرض عليه، ودفع ثمنها من عمره راضياً على صعيدي الحياة الخاصة والعامة معاً. فإنقاذاً للفنان من الفقر يقترح صديقه الدكتور غازي حسين أن يشتري القصر الجمهوري لوحات من برهان، لكن برهان يرفض، وعندما يطلب منه أن يرسم لوحات معينة يرفض لأنه لا يرسم بالتكليف والإملاء! هذا مع أن الدكتور حسين صديقه. وعندما يحتفل بعيد ميلاد زوجته الأولى ليلى ابنة سفير اليمن في القاهرة يختار شموعه من أعواد الثقاب مكتفياً بكلمة كل سنة وأنت طيبة يا حبيبتي مع نسائم النيل. وحين ينفصل عنها يبقى على علاقة وطيدة معها ومع أسرتها. وحين يتزوج زوجته الثانية الألمانية (كيتي) أم ولده نديم يعيش كما يريد، يحبها على طريقته الخاصة، وعندما يقرر السفر إلى المكسيك لممارسة حياته وفنه ترفض أن تسافر معه، فينفصل عنها ويحتفظ بصداقتها، وتشاء الأقدار أن تصاب بمرض خبيث وتموت قبله، فيبقى إلى جوارها محباً ومواسياً وهي على سرير الموت، ويخلدها بلوحات خاصة بها تحمل اسمها وشخصها. وإلى ذلك يشير الدكتور الخالدي كاتب سيرته: "كان يتصرف بنفس الطريقة التي يفكر بها، بمعنى أنه لم يتناقض أبداً بين أفكاره ومعتقداته وبين سلوكه وممارساته. لذلك لم يقبل مهادنة المزيفين ولا المنافقين ولا الانتهازيين، وأكبر كلمة يقولها لمن لا يتفق معه بالرأي: أنت لك رأيك وأنا لي رأيي والأيام هي الحكم بيننا". التوثيق الكامل لم يكن كتاب (برهان كركوتلي) مجرد كتاب عاطفي –على الرغم مما يحمله من عاطفة نبيلة- بل هو كتاب توثيقي كامل، فإضافة إلى كل الصفات الإيجابية فيه قدّم في الفصل الأول حياة الفنان، وفي الثاني مفهوم الوطن والقومية، والثالث خصص للحياة الشعبية في لوحاته، أما الرابع فخصه المؤلف للوجوه، والخامس للإعلان والكاريكاتير، والسادس للطرب والنغم في لوحاته، أما السابع فاختص برسائل برهان، والثامن لمقالاته، والتاسع لما كتب عن برهان، أما العاشر فقد اختص بتوثيق لوحات برهان كركوتلي بمختلف موضوعاتها ليكون بذلك من المراجع الهامة للتشكيل السوري في قرن من الزمن، وللفنان كركوتلي نفسه.. شكراً غازي الخالدي على ما جلوت من وجوه هذا الفنان المختلف في كل وجوهه وأطواره. "ليس المهم أن نجيد رسم الإنسان أو مدى تطابق الأصل مع الصورة، ولكن المهم أن نضع رأينا فيه، ونشعر بشعوره ونتحسس مشاعره بصدق وبساطة ودون أي افتعال. فالرسم الجيد يأتي بالتدريب، أما التعبير الصادق فيأتي بالإحساس العميق والحقيقي بالإنسان". برهان كركوتلي "برهان صوفي في زمن أصبحت الصوفية نادرة الوجود". بيكار "رسم لوحاته الأكثر شهرة بالأبيض والأسود، حتى صار من الأعلام الذين يشار إليهم بالبنان، وكتب النقاد عن أعماله، تحليلاً ونقداً وتقييماً، وأقام معارض عديدة فردية، وشارك بمعارض عالمية كثيرة.. وأخذ موقعه المتميز في مسيرة الفن العالمي كفنان عربي". غازي الخالدي "شعر برهان بخيبة أمل بعد توقيع اتفاق أوسلو وأخبرني بأنه يتفق مع موقفي من القيادة الفلسطينية، وبأنه شعر بمرارة وخيبة أمل وانسحب من النشاط الفلسطيني" .

 د. غازي حسين

تعليقات